الاثنين 03/ رمضان/ 1446 - 03/03/2025 : ذمار نت
الأنبياء لهم هذا المقام العظيم في الواقع البشري، هم القدوة، هم الأسوة، هم القادة، هم الهداة، هم الرموز الذين يجب أن يلتف حولهم المجتمع البشري. - فالقصص المرتبط بهم، وهو نموذجٌ من القصص القرآني، له أهميته الكبيرة جداً في مقام الهداية، في مقام التأسي، في مقام استلهام ما يرتقي بالإنسان في وعيه، في إيمانه، في رشده. - يأتي الحديث عن الأنبياء، في النماذج التي قدمها القرآن الكريم، بمستوى أيضاً ما هم عليه هم من مقامات قد تكون متفاوتة في مستوى الفضل والأهمية. - الله سبحانه وتعالى جعل أول إنسانٍ يخلقه نبياً، أوحى إليه، هداه، علَّمه سبحانه وتعالى ما يحتاج إلى علمه في مسيرة حياته. - فالله يأمرنا بما هو خير لنا، وينهانا عمَّا هو خطرٌ علينا، له تأثيراته السيئة علينا. - المجتمع الإنساني موجودٌ في إطار نعمة من الله عليه، ورعايةٍ من الله عليه؛ وإنما كيف يتعامل مع الله ومع نعم الله سبحانه وتعالى من واقع أنه عبدٌ لله سبحانه وتعالى، ومن واقع أنه في إطار ملك الله وملكوته وتدبيره، في هذا العالم الذي هو في إطار التدبير الإلهي؛ فلذلك كانت مسيرة الأنبياء في هداية الناس مسيرة مستمرة. لكن في الواقع البشري نشأت حالة الانحراف، وحالة المعاصي، وحالة الخلل الكبير في مستوى الالتزام بتعليمات الله وهديه. تعاظمت حالة الانحراف في الواقع البشري، على المستوى العملي، على مستوى الأخلاق والقيم، على مستوى المحرمات، فيما هو حلال، وفيما هو حرام ووصلت في نهاية المطاف إلى انحرافٍ خطير جداً في مستوى التوحيد لله سبحانه وتعالى، الإيمان بأنه هو وحده الإله الذي نعبده، ونتَّجه إليه بالعبادة. بالتالي علينا أن نتوجه إلى الله وحده بالعبادة، هو الخالق، هو الرازق، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، لا يملك أحدٌ غيره أي تدخلٍ في تدبير شؤون الخلائق أجمعين. حالة الانحراف وصلت إلى مستوى الشرك (ظاهرة الشرك)، فكان البشر، مع اعترافهم بأن الله هو الخالق، يعتقدون بشركاء معه في الألوهية، وبتعدُّد الآلِهة، وأضافوا أدواراً ومستويات معينة فاعتبروها آلهةً معه. - تنوعت هذه المعتقدات في مسألة الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالبعض عبدوا الظواهر الكونية، والبعض اتجهوا إلى الأصنام، وآخرون ألَّهوا الملائكة أو البشر - البعض من البشر، في نظرتهم إلى بعض الظواهر الكونية وتأثرهم بها، اعتقدوها آلهة، مثل من عبدوا الشمس، القمر، والنجوم - البعض اتَّجهوا إلى جمادات، إلى الأصنام التي ينحتونها من الصخر، أو يصنعونها من الخشب أو المعادن، ونصبوها في المعابد، واعتقدوها آلهة. - البعض من البشر ألَّهوا الملائكة، واعتقدوا أنهم مشاركون في مسألة الألوهية. - البعض ألَّهوا أُناساً من الطغاة الظالمين، الذين ادّعوا الربوبية، كما فعل فرعون حين قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}. - البعض اتخذوا آلهة بغير رضاً منها، مثل من ألَّهوا عيسى عليه السلام، رغم أنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، وكان عنوان دعوته: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}. الحالة بالنسبة للبشر في مستوى الانحراف، والانحراف حالة خطيرة في واقع الناس؛ لأن الباطل يزداد إذا اتَّجه الناس في خط الضلال، فيكبر انحرافهم مع الزمن، ويزداد انفصالهم عن مصدر الهداية. - مع البعد عن خط الهداية، تكثر حالة الخرافات والأساطير والضلال، ويصل الناس إلى مستويات خطيرة جداً من الانحراف. - هذه الحالة، مع أنها سخيفة وينبغي ألَّا يقع فيها البشر، لكنها تُحاط بأساطير وهالة تجعل الناس يتقبلونها ويرتبطون بها. - كان البعض يقدم القرابين للأصنام، مثل النذور أو الذبائح، وحتى الكلاب، معتقدين أن ذلك يجلب النفع أو يدفع الضرر. - التمادي في الباطل والوصول إلى معتقدات زائفة سببه الابتعاد عن هدى الله، فكلما ابتعد الناس عن هدى الله، كبر باطلهم وازداد ضلالهم. ما بين نبي الله نوح عليه السلام، الذي استأنفت البشرية معه حياةً جديدةً قائمةً على التوحيد، وبين عودة الانحراف بعد أجيال، عادت البشرية من جديد إلى الانحراف، فجاءت قصة نبي الله هود عليه السلام مع قوم عاد، ثم نبي الله صالح مع قوم ثمود... وهكذا، إلى عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام - في عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام كانت المجتمعات قد توسعت جغرافياً، وظهرت الممالك بعد أن كانت المجتمعات قائمة على النظام العشائري. - مع الكثافة السكانية، انتقلت المجتمعات من النظام العشائري إلى تشكيل الممالك، التي أصبحت أشبه بالدول في العصر الحديث. - في بعض الممالك، اتجه القادة إلى الطغيان، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تقديم أنفسهم كآلهة، كما حدث في عصر نبي الله إبراهيم عليه السلام. - كانت المملكة البابلية وامتداداتها من أقدم الممالك في المجتمعات البشرية، حيث بُعث نبي الله إبراهيم في جنوب العراق وما جاورها. - وُلِد نبي الله إبراهيم عليه السلام في جنوب العراق، في مجتمع طغى عليه الشرك، وحكمه طاغية متجبر ادَّعى الألوهية، وهو ما يُنسب إلى (النمرود). - كانت حالة الشرك متوارثة عبر الأجيال، مما جعلها راسخة في نفوس الناس، ومحمية من قِبل السلطة الحاكمة، التي أضفت عليها هالة من الأساطير والخرافات. - مثلما كان الحال في زمن فرعون، دعم النمرود عبادة الأصنام، واعتبر نفسه كبير الآلهة، بينما كان يمنع ذكر الله أو التوجه إليه بالعبادة. - مع أن الناس كانوا يقرّون بوجود الله كخالق للسماوات والأرض، إلا أنهم وقعوا في الشرك بإضافة آلهة أخرى، تحت تأثير الطغيان والاستبداد. - كان الطغاة يدركون ضعف موقفهم أمام فكرة التوحيد، لذا سعوا إلى منع ذكر الله تمامًا، لأنه يهدد سلطتهم القائمة على الوهم والخداع. - بذل الناس جهودًا كبيرة وأموالًا طائلة في بناء معابد ضخمة للأصنام، معتبرين ذلك جزءًا من طقوسهم الدينية، بينما بقي الحاكم مستبدًا ومتحكمًا فيهم تحت مسمى كبير الآلهة. نشأ نبي الله إبراهيم عليه السلام في جنوب العراق، وسط ذلك المجتمع الذي قد وصل به الانحراف إلى ذلك المستوى، فهو مجتمع متشبث بذلك الباطل، وباطلٌ وضلالٌ كبيرٌ قد أصبح مرتكزاً على حماية رسمية من السلطة، وحماية اجتماعية من نفوذ الأشخاص الذين ارتبطوا بمصالح في ذلك الوضع، وأيضاً بالخرافات والأساطير التي قد أثّرت على الكثير من الناس، فارتبطوا بالأصنام من ظروف حياتهم: في طلب النفع، في طلب دفع الضر، في طلب الشفاء، في طلب الرزق، في طلب البركات، من خلال تلك الطقوس التي يقدِّمونها. - عندما نشأ نبي الله إبراهيم عليه السلام، نشأته كنشأة بقية الأنبياء والرسل، ينشؤون موحِّدين لله تعالى، هذه قضية أساسية، هذا مبدأٌ أساسيٌ، لم يكن هناك أبداً أي رسولٍ أو نبيٍ من أنبياء الله كان قبل رسالته قد اتَّجه في حالة شرك، أو انحرف هذا الانحراف، بل إنَّ الأنبياء والرسل منزَّهون عن غير ذلك أيضاً: عن الجرائم، عن المفاسد، عن... ما قبل رسالتهم، ما قبل بعثتهم، هم ينشؤون في إطار عناية ورعاية إلهية، كما قال الله عن نبي موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، ينشؤون بسجلٍ نظيف على المستوى الأخلاقي والسلوكي، ينشؤون بقيم راقية، بمكارم الأخلاق، وينشؤون موحِّدين لله سبحانه وتعالى، ومتميِّزين بما هم عليه من توحيدٍ، ومن مكارم الأخلاق، ومن اتِّجاه صحيح، وانشدادٍ إلى الله تعالى، ليسوا متلوثين بما تلوث به المجتمع، لا من الناحية العقائدية بما فيه من باطل وضلال رهيب، ولا من الناحية السلوكية والعملية، فهذه نقطة مهمة جداً، هي أساسٌ في فهمنا لما سيأتي من هذه الدروس عن نبي الله إبراهيم عليه السلام. - لكن تلك الحالة حالة وصلت إلى محيطه الأسري، حالة الانحراف والشرك، وصلت إلى محيطه الأسري، يعني: حالة مسيطرة على المجتمع من حوله؛ ولذلك هو يعاني من الغربة في التصدي لتلك الحالة، ومواجهة تلك الحالة، يعاني من الغربة؛ لأن محيطه حتى على المستوى الأسري متأثر بتلك الحالة، ولهذا نجد في القرآن الكريم في عدة مواضع، ما يذكره الله سبحانه وتعالى عن مشكلة إبراهيم مع أبيه، في مثل قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74]، نجد ذلك أيضاً في سورة مريم، في سورة الأنبياء أيضاً، كيف يتحدَّث مع والده، مع أبيه عن هذا الموضوع. - يختلف المفسِّرون والمؤرخون: هل هذا والده عندما يقول الله في القرآن: {لِأَبِيهِ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ}، أم أنه يحكي عن عمه؛ لأن العم أيضاً قد يقال له أب، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل ويعقوب، عندما حضر يعقوب الموت، {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، فذكروا إسماعيل من آبائه، مع أنه عم يعقوب، عم نبي الله يعقوب، لكن حسبوه تحت هذا الاسم، وهذا واردٌ في الاستعمال العربي عند العرب، يقال عن العم أيضاً أب، لكن والد تختص بالأب الذي ولدك، على كلٍ هذا رأي الكثير من المفسرين، أنَّ هذا عمه، والبعض يقولون: [بل أبوه]، والده - الخلاصة أنَّ هذه الإشكالية وصلت إلى محيطه الأسري، إلى داخل الأسرة، وواجه هذه الإشكالية حتى في داخل الأسرة، وسنجد كيف كان حجم هذه الإشكالية، وكيف كان حجم تأثيرها، في قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام. في دعوته لقومه، وتحركه بالرسالة الإلهية لهداية قومه، كان هدفه الأول معالجة هذا الانحراف الكبير في واقعهم، بدءًا بظاهرة الشرك. فالشرك كان العقبة الكبرى أمام استقامة المجتمع على الدين الحق، وكان في مقدمة ما يتصدى له الأنبياء والرسل في المجتمعات التي تورطت فيه. - الشرك يمثل العائق الأكبر أمام تطبيق بقية أمور الدين، وهو من أكبر حالات الانحراف التي يمكن أن يقع فيها الإنسان. فعلى مستوى التقييم والتصنيف، يعتبر الشرك جريمة عظيمة، بل هو أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها الإنسان، لأنه تنكرٌ لأكبر الحقائق، وإساءةٌ بالغةٌ إلى الله سبحانه وتعالى. - من أعظم مظاهر الشرك أنه ينسب الضعف والعجز إلى الله، فيصوره كأنه يحتاج إلى شركاء في تدبير أمور الخلق والكون. لكن الله سبحانه وتعالى منزَّه عن أي شريك في ملكه وألوهيته، فهو وحده الإله، وكل ما سواه مخلوقون له، فهو الرب لكل شيء، والمتصرف في كل شيء. - في مسيرته الدعوية، مرّ نبي الله إبراهيم عليه السلام بعدة مواقف ومقامات عظيمة، كان لكل منها أثره في نشر دعوته. ومع استمرار احتكاكه بقومه، وتصديه لشركهم، وصلت المواجهة بينه وبينهم إلى ذروتها، حين قرروا التخلص منه بحرقه بالنار
جميع الحقوق محفوظة لموقع © ذمار نت . تم تصميم الموقع بواسطة أوميغا سوفت